في غضون شهر واحد – تحديداً من 15 أبريل/ نيسان إلى 15 مايو/ أيار – تم إجلاء عشرات الآلاف من الرعايا الأجانب من السودان مع تصاعد حدة الاشتباكات بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع (وهي جماعة شبه عسكرية رئيسية في البلاد). خرجت القوافل المدرعة من الخرطوم لنقل الأشخاص، فثمّ من جرى إجلاؤهم جوا على متن طائرات عسكرية، وثمّ من نُقلوا على متن السفن الحربية التابعة لمختلف الدول ممن تكاتفت لإجلاء الأفراد العالقين في السودان إلى بر الأمان. باستثناء عملية الإجلاء الداخلي بين الخرطوم و بورتسودان، كانت اليمن آخر دولة تُنظم عملية إجلاء رسمية – والتي بدأت فقط بعد أن أكملت الدول الأخرى عمليات إجلاء رعاياها.
بدأت عملية اجلاء اليمنيين العالقين في السودان في منتصف مايو/ أيار الماضي (14 و15 من الشهر) حين تدخلت الخطوط اليمنية لنقل 775 مواطن ومواطنة ، بينهم 75 طفلا ، عبر أربع رحلات مباشرة من بورتسودان إلى كل من صنعاء وعدن ، وفقا لما أفاد به مصدر من لجنة الطوارئ المكلفة بإجلاء اليمنيين العالقين في السودان. تُرك 1,239 شخصا تحت الانتظار، منهم من تجمعوا تحت سقف قاعة أعراس مستأجرة في بورتسودان، ومنهم من اضطر للنوم في الشوارع، إلى أن تم أخيرا إجلاؤهم على متن سبع رحلات جوية إضافية تابعة للخطوط اليمنية (أربع رحلات إلى مطار صنعاء، ثلاث رحلات إلى مطار عدن) ونقلهم إلى بر الأمان في 27 و28 مايو/أيار.
بحسب تقديرات وزارة الخارجية اليمنية، بلغت الجالية اليمنية بالسودان نحو 17000 يمني في بداية عام 2023، أغلبهم مقيمين في البلاد منذ فترة ما قبل الحرب اليمنية الجارية. إلا أن أغلب من طلب الإجلاء من السودان كانوا من الفارين من الحرب اليمنية الراهنة، حيث استضاف السودان حوالي 3,500 مواطن يمني، يواجهون الآن واقع التهجير من جديد. العديد منهم كانوا طلابا في السودان أوقرروا بدء مسيرة مهنية في البلاد بل وحتى جلبوا أسرهم معهم.
بدأت عمليات الإجلاء الداخلي لليمنيين العالقين في الخرطوم إلى مدينتي بورتسودان ومدنيّ شرقي السودان في 24 أبريل/ نيسان الماضي. قبلها بيومين، انطلقت من بورتسودان سفن حربية سعودية – في أكبر عملية إجلاء تُنسقها السعودية كأول دولة تستخدم قواتها البحرية لنقل الأجانب و إجلائهم إلى بر الأمان. أجلت السفن الحربية السعودية رعايا (مدنيين) لـ 110 دولة – بما في ذلك من الجالية السورية والعراقية- من بورتسودان. بحلول 12 مايو/أيار، توقفت السعودية عن عمليات الاجلاء، وبلغ عدد اليمنيين الذين تم إجلاؤهم على متن سفنها نحو 864 مواطن يمني وفق ما أفاد به الملحق بالسفارة اليمنية في السودان المعني بشؤون الرعايا المغتربين. تُرك غيرهم من آلاف اليمنيين عالقين، غالبا بسبب تعذّر قدرتهم على الوصول إلى الميناء. ولكسب الوقت وضمان حياة اليمنيين، اضطر اليمنيون في السودان لتشكيل لجنتهم الخاصة التي أطلق عليها اسم “لجنة الطوارئ اليمنية لإجلاء المواطنين العالقين، وضمت في عضويتها إضافة لممثلين عن السفارة، قيادات من الجالية اليمنية واتحاد الطلاب اليمنيين في السودان.
بدأت عمليات الإجلاء مع احتدام الاشتباكات العنيفة في شوارع الخرطوم، حيث نسق قادة الجالية اليمنية نقل بعض اليمنيين العالقين في الأحياء السكنية التي تشهد مواجهات إلى أحياء أخرى أكثر أماناً، لكن مع توسع رقعة الاشتباكات وتحوّل الشوارع والأحياء إلى ساحات قتال، بدأت النقاشات حول عمليات إجلاء تامة لليمنيين من الخرطوم. شهدت المدينة انقطاع الخدمات العامة كالكهرباء ومياه الشرب، وضاعفت محلات البقالة الأسعار مع نفاد المواد الغذائية لديها، بينما أغلقت العديد من المتاجر أبوابها أو دُمرت بفعل الاشتباكات. ذكر أعضاء اللجنة عن تعرض العديد من اليمنيين لعمليات نهب، على أيدي قوات الدعم السريع وفقا لما أكدّوه.
مع تكثف الطلقات النارية والقصف المدفعي في العاصمة السودانية، فرّ العديد من اليمنيين بمساعدة متطوعين رتبوا وسائل النقل لأولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف إجلائهم. افتقرت اللجنة للموارد اللازمة لإجلاء كافة المواطنين العالقين خلال الأيام الأولى للحرب، فَشجعت اليمنيين القادرين على السفر بشكل مستقل إلى (مدني) التي تبعد أربع ساعات بالسيارة من الخرطوم، أو إلى بورتسودان التي تبعد نحو 12 ساعة. طُلب من أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف وسائل النقل المحلية الاحتماء في أماكنهم لحين تمكّن اللجنة من جمع الأموال من رجال أعمال يمنيين لتنفيذ عملية إجلائهم، وتوفير خمسة باصات سياحية نقلت على متنها نحو 300 يمني إلى مدني ومن ثم إلى بورتسودان، ثم تدخلت مجموعة هائل سعيد أنعم ـ إحدى أكبر الشركات القابضة في اليمن – لنقل دفعات لاحقة منهم على نفقتها، بحسب عضو في لجنة تنسيق الإجلاء. إلا أن المسألة لم تخل من التحديات اللوجستية التي تفاقمت مع تعذر تحويل الأموال إلى داخل السودان أو خارجه، مما حرم اللجنة من تلقي الدعم المالي.
لم تنته معاناة اليمنيين الذين تم إجلاؤهم إلى بورتسودان بوصولهم هناك، حيث واجهوا أزمة أخرى. وصل ما مجموعه 2,246 يمنيا إلى المدينة الساحلية حيث سجلوا أسماءهم لدى لجنة تنسيق الإجلاء، بينما وصل 500 آخرون إلى مدني، وطلبوا لاحقا نقلهم إلى بورتسودان، ، التي لا تحتمل استيعاب تدفق أعداد كبيرة من الناس باعتبارها مدينة صغيرة ذات بنية تحتية ضعيفة ، وبالتالي أجبر اليمنيون على التجمع تحت سقف صالة أعراس مستأجرة، وتم إقامة مطبخ ميداني لهم في مكان قريب حيث بادر أصحاب المطاعم اليمنية في السودان وكوادرهم بإعداد الطعام، وقدمت الحكومة اليمنية الدعم المالي لتغطية قيمة الوجبات.
عرضت مجموعة هائل سعيد أنعم مراراً التدخل لإجلاء اليمنيين من بورتسودان إلى اليمن، بحسب ما أفاد به مصدر في لجنة تنسيق الاجلاء. عرضت المجموعة في البداية استخدام باخرة حاويات كانت قريبة في البحر، لكنها أُعتبرت غير ملائمة لنقل الأسر والركاب عموما، فبحثوا عن باخرة سياحية لنقل اليمنيين العالقين إلاّ أنها لم تحصل على التصاريح اللازمة لدخول السودان من قبل الحكومة السودانية، ولا لدخول اليمن من قبل التحالف. عرضت شركة تارجو للنقل الجوي السودانية (وهي الشركة التي كانت تنقل قوات الدعم السريع السودانية التي تدخلت في اليمن تحت مظلة التحالف بقيادة السعودية) نقل اليمنيين العالقين إلى كل من صنعاء وعدن، مقابل 900 دولار أمريكي لكل مواطن. طُلب من الحكومة اليمنية تدبير التراخيص اللازمة من التحالف لدخول طائرات الشركة الأجواء اليمنية، لكن في نهاية المطاف، لجأت الحكومة إلى الحل البديل وهو الإجلاء عبر طيران اليمنية، رغم تأخرها في ذلك.
كحلّ أخير، تم التخطيط لعملية إجلاء رسمية بالشراكة مع الخطوط الجوية اليمنية (المملوكة جزئيا للدولة). تواصلت شركة الطيران مع شركة تأمين بريطانية لتأمين رحلاتها الجوية من وإلى الأراضي السودانية باعتبارها منطقة حرب. طلبت شركة التأمين مليون دولار أمريكي لقاء تأمين سبع رحلات، كان يتوقع أن تنقل كل رحلة منها 280 مواطن مما سيَكفل إجلاء ألفي مواطن يمني من العالقين في بورتسودان. إلا أن الحكومة لم تكن قادرة على دفع قسط التأمين، وانتهى الأمر بإعادة ترتيب العملية على مرحلتين، بدأت الأولى مع انطلاق أربع رحلات الى السودان في 14 و 15 مايو/ أيار، والثانية أواخر مايو/ أيار بسبع رحلات إلى صنعاء وعدن. ترقب الآلاف لأسابيع، غير متيقّنين ما اذا ستتم المرحلة الثانية من عملية الإجلاء.
حسب مصدر في لجنة الطوارئ اليمنية لإجلاء المواطنين العالقين بالسودان، كان تجاوب الحكومة اليمنية ضعيفا للغاية حيث “يبدوا أنهم اعتقدوا بأنهم قاموا بواجبهم بعد تحويل الأموال المخصصة لحالات الطوارئ للسفارة”. فكل الدول استنفرت وشرعت بخطط لنقل رعاياها، باستثناء اليمنيين الذين تُركوا يتزاحمون تحت سقف قاعة أعراس تم تقسيمها لاستيعابهم وتخصيص أماكن للنوم لهم وبتغذية في الحدود الدنيا رغم الجهود التي بذلها أصحاب المطاعم. توفيت امرأة يمنية مسنة مرضاً أثناء إجلائها من بورتسودان بسبب نقص الرعاية الطبية، بينما لقيت امرأة وابنتها حتفهما في حادث مروري أثناء محاولتهما الوصول إلى بر الأمان ليصبح موعدا مع النهاية.
أخيرا وبعد أسبوعين ، انطلقت المرحلة الثانية التي طال انتظارها من العملية بإجلاء الـ 1,239 يمنيا المتبقين على متن سبع رحلات جوية أقلعت في 27 و28 أيار/مايو. في المجمل، تم إجلاء 2894 يمني من السودان، رغم فرار عدد كبير منهم من البلاد من نيران الاشتباكات باستخدام موارد خاصة.
من المفارقات اللافتة أن هذه الفترة العصيبة لم تخلُ من وميض فرح، حيث أقيم عرسان مُرتجلان في ذات قاعة الأعراس التي لجأ تحت سقفها اليمنيون. حب يافع والحاجة إلى سبب للاحتفال هو ما أنجب فرحاً من رحم المعاناة.
رابط المقال على "مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية":